كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم أنذركم ثلاثًا الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» ورواه الطبراني عن هاشم بن زيد، عن محمد بن إسماعيل بن عياش بهذا النص (وقال ابن كثير في التفسير: وهذا إسناد جيد).
وقال ابن جرير كذلك: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة. قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذوالذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت.. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن ابن عمر، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: رضي الله عنهما فذكره.
قال ابن كثير في التفسير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن. وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أو ردوها، مما فيه مقتنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن. قال الله تبارك وتعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين}.. أي بيّن واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى: {يغشى الناس}.. أي يتغشاهم ويعميهم. ولوكان أمرًا خياليًا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: {يغشى الناس}..
وقوله تعالى: {هذا عذاب أليم}.. أي يقال لهم ذلك، تقريعًا وتوبيخًا. كقوله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون}. أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله سبحانه وتعالى: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون}.. أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: {ولوترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بايات ربنا ونكون من المؤمنين} وكذا قوله جل وعلا: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال} وهكذا قال جل وعلا ها هنا: {أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون}.. يقول: كيف لهم التذكر وقد أرسلنا إليهم رسو لا بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه، وما وافقوه بل كذبوه، وقالوا: معلم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} الآية، وقوله عز وجل: {ولوترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا امنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} إلى آخر السورة..
وقوله تعالى: {إنا كاشفوالعذاب قليلًا إنكم عائدون}.. يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يقول تعالى: ولوكشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى: {ولورحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} وكقوله جلت عظمته: {ولوردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخروالعذاب عنكم قليلًا بعد انعقاد أسبابه، ووصو له إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال. ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى: {إلا قوم يونس لما امنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم.. وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله..
وقوله عز وجل: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}.. فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه، وجماعة عنه على تفسير الدخان بما تقدم وروي أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وأبي بن كعب رضي الله عنه وهو محتمل: والظاهر أن ذلك يوم القيامة. وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا. قال ابن جرير: حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية. حدثنا خالد الحذاء. عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول: هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم.. انتهى كلام ابن كثير..
ونحن نختار قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة، وقول ابن كثير في تفسيره. فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم، في مثل هذه المناسبة. ومعناه: إنهم يشكون ويلعبون. فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب. يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس. ووصف هذا بأنه عذاب أليم. وصور استغاثتهم: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون}.. ورده عليهم باستحالة الاستجابة، فقد مضى وقتها: {أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون}.. يعلمه ذلك الغلام الأعجمي! وهو كما زعموا مجنون..
وفي ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم: إن أمامكم فرصة بعد لم تضع، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلًا وأنتم الأن في الدنيا. وهو مكشوف عنكم الأن فامنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون. وأنتم الأن في عافية لن تدوم.
فإنكم عائدون إلينا {يوم نبطش البطشة الكبرى}.. يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له.
{إنا منتقمون} من هذا اللعب الذي تلعبون، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول صلى الله عليه وسلم إذ تقولون عنه: {معلم مجنون}.. وهو الصادق الأمين..
بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات، كما يبدو لنا، والله أعلم بما يريد.
بعد ذلك يأخذ بهم في جو لة أخرى مع قصة موسى عليه السلام. فيعرضها في اختصار ينتهي ببطشة كبرى في هذه الأرض. بعد إذ أراهم بطشته الكبرى يوم تأتي السماء بدخان مبين:
{ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إليَّ عباد الله إني لكم رسول أمين وألا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلًا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليًا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}..
هذه الجو لة تبدأ بلمسة قوية لإيقاظ قلوبهم إلى أن إرسال الرسول لقومه قد يكون فتنة وابتلاء. والإملاء للمكذبين فترة من الزمان، وهم يستكبرون على الله، ويؤذون رسول الله والمؤمنين معه قد يكون كذلك فتنة وابتلاء. وأن إغضاب الرسول واستنفاد حلمه على أذاهم ورجائه في هدايتهم قد يكون وراءه الأخذ الأليم والبطش الشديد:
{ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون}..
وابتليناهم بالنعمة والسلطان، والتمكين في الأرض، والإملاء في الرخاء، وأسباب الثراء والاستعلاء.
{وجاءهم رسول كريم}..
وكان هذا طرفًا من الابتلاء، ينكشف به نوع استجابتهم للرسول الكريم، الذي لا يطلب منهم شيئًا لنفسه؛ إنما يدعوهم إلى الله، ويطلب إليهم أن يؤدوا كل شىء لله، وألا يستبقوا شيئًا لا يؤدونه من ذوات أنفسهم يضنون به على الله:
{أن أدوا إليّ عباد الله إني لكم رسول أمين وألا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذب بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}..
إنها كلمات قصيرة تلك التي جاءهم بها رسولهم الكريم موسى عليه السلام:
إنه يطلب إليهم الاستجابة الكلية. والأداء الكامل. والاستسلام المطلق. الاستسلام المطلق لله. الذي هم عباده. وما ينبغي للعباد أن يعلوا على الله. فهي دعوة الله يحملها إليهم الرسول، ومعه البرهان على أنه رسول الله إليهم. البرهان القوي والسلطان المبين، الذي تذعن له القلوب. وهو يتحصن بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه وأن يرجموه.
فإن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه. وذلك منتهى النصفة والعدل والمسالمة.
و لكن الطغيان قلما يقبل النصفة، فهو يخشى الحق أن يظل طليقًا، يحاو ل أن يصل إلى الناس في سلام وهدوء. ومن ثم يحارب الحق بالبطش. ولا يسالمه أبدًا. فمعنى المسالمة أن يزحف الحق ويستو لي في كل يوم على النفوس والقلوب. ومن ثم يبطش الباطل ويرجم ولا يعتزل الحق ولا يدعه يسلم أو يستريح!
ويختصر السياق هنا حلقات كثيرة من القصة، ليصل إلى قرب النهاية. حين وصلت التجربة إلى نهايتها؛ وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته؛ ولن يسالموه أو يعتزلوه. وبدا له إجرامهم أصيلًا عميقًا لا أمل في تخليهم عنه. عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير:
{فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون}..
وماذا يملك الرسول إلا أن يعود إلى ربه بالحصيلة التي جنتها يداه؟ وإلا أن ينفض أمره بين يديه، ويدع له التصرف بما يريد؟
وتلقى موسى الإجابة إقرارًا من ربه لما دمغ به القوم.. حقًا إنهم مجرمون..
{فأسر بعبادي ليلًا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون}..
والسرى لا يكون إلا ليلًا، فالنص عليه يعيد تصوير المشهد، مشهد السرى بعباد الله وهم بنو إسرائيل. ثم للإيحاء بجوالخفية، لأن سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء علمه. والرهو: الساكن. وقد أمر الله موسى عليه السلام أن يمر هو وقومه وأن يدع البحر وراءه ساكنًا على هيئته التي مر هو وقومه فيها، لإغراء فرعون وجنده باتباعهم، ليتم قدر الله بهم كما أراده: {إنهم جند مغرقون}.. فهكذا ينفذ قدر الله من خلال الأسباب الظاهرة. والأسباب ذاتها طرف من هذا القدر المحتوم.
ويختصر السياق حكاية مشهد الغرق أو عرضه، اكتفاء بالكلمة النافذة التي لابد أن تكون: {إنهم جند مغرقون}.. ويمضي من هذا المشهد المضمر إلى التعقيب عليه؛ تعقيبًا يشي بهوان فرعون الطاغية المتعالى وملئه الممالئ له على الظلم والطغيان. هوانه وهوانهم على الله، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه، فيطأطئ له الملأ المفتونون به؛ وهو أضأل وأزهد من أن يحس به الوجود، وهو يسلب النعمة فلا يمنعها من الزوال، ولا يرثي له أحد على سوء المال:
{كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}..
ويبدأ المشهد بصور النعيم الذي كانوا فيه يرفلون.. جنات. وعيون. وزروع. ومكان مرموق، ينالون فيه الاحترام والتكريم. ونعمة يتلذونها ويطعمونها ويعيشون فيها مسرورين محبورين.
ثم ينزع هذا كله منهم أو ينزعون منه. ويرثه قوم آخرون وفي موضع آخر قال: {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} وبنو إسرائيل لم يرثوا ملك فرعون بالذات.
و لكنهم ورثوا ملكًا مثله في الأرض الآخرى. فالمقصود إذن هو نوع الملك والنعمة. الذي زال عن فرعون وملئه، وورثه بنو إسرائيل!
ثم ماذا؟ ثم ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض: ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض؛ ولم ينظروا أو يؤجلوا عند ما حل الميعاد:
{فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}..
وهوتعبير يلقي ظلال الهوان، كما يلقي ظلال الجفاء.. فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء. ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء. وذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لأنفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه!
ولوأحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله. ولادركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به اصرة، وقد قطعت اصرة الإيمان.
وفي الصفحة المقابلة مشهد النجاة والتكريم والاختيار:
{ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليًا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}..
ويذكر هنا نجاة بني إسرائيل من العذاب {المهين} في مقابل الهوان الذي انتهى إليه المتجبرون المتعالون المسرفون في التجبر والتعالى: {من فرعون إنه كان عاليًا من المسرفين}..
ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل على علم بحقيقتهم كلها، خيرها وشرها. اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف؛ على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء. مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم؛ ولولم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي؛ إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة.
{وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}..
فتعرضوا للاختبار بهذه الآيات، التي اتاهم الله إياها للابتلاء. حتى إذا تم امتحانهم، وانقضت فترة استخلافهم، أخذهم الله بانحرافهم والتوائهم، وبنتيجة اختبارهم وابتلائهم، فضربهم بمن يشردهم في الأرض، وكتب عليهم الذلة والمسكنة، وتوعدهم أن يعودوا إلى النكال والتشريد كلما بغوا في الأرض إلى يوم الدين..
وبعد هذه الجو لة في مصرع فرعون وملئه، ونجاة موسى وقومه، وابتلائهم بالآيات بعد فتنة فرعون وأخذه.. بعد هذه الجو لة يعود إلى موقف المشركين من قضية البعث والنشور، وشكهم فيها، وإنكارهم لها. يعود ليربط بين قضية البعث وتصميم الوجود كله وبنائه على الحق والجد، الذي يقتضي هذا البعث والنشور:
{إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئًا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم}..
إن هؤلاء المشركين من العرب ليقولون: ما هي إلا الموتة التي نموتها، ثم لا حياة ولا نشور. ويسمونها {الأولى} بمعنى السابقة المتقدمة على الموعد الذي يوعدونه للبعث والنشور. ويستدلون على أنه ليس هناك إلا هذه الموتة وينتهي الأمر. يستدلون بأن اباءهم الذين ماتوا هذه الموتة ومضوا لم يعد منهم أحد، ولم ينشر منهم أحد؛ ويطلبون الإتيان بهم إن كان النشور حقًا وصدقًا.
وهم في هذا الطلب يغفلون عن حكمة البعث والنشور؛ ولا يدركون أنها حلقة من حلقات النشأة البشرية، ذات حكمة خاصة وهدف معين، للجزاء على ما كان في الحلقة الأولى. والوصو ل بالطائعين إلى النهاية الكريمة التي تؤهلهم لها خطواتهم المستقيمة في رحلة الحياة الدنيا؛ والوصو ل بالعصاة إلى النهاية الحقيرة التي تؤهلهم لها خطواتهم المنتكسة المرتكسة في الحمأة المستقذرة.. وتلك الحكمة تقتضي مجيء البعث والنشور بعد انقضاء مرحلة الأرض كلها؛ وتمنع أن يكون البعث لعبة تتم حسب رغبة أونزوة بشرية لفرد أولجماعة محدودة من البشر كي يصدقوا بالبعث والنشور! وهم لا يكمل إيمانهم إلا أن يشهدوا بالغيب على هذه القضية، التي يخبرهم بها الرسل؛ ويقتضيها التدبر في طبيعة هذه الحياة، وفي حكمة الله في خلقها على هذا الأساس. وهذا التدبر وحده يكفي للإيمان بالآخرة، والتصديق بالنشور.